قصة إيمان عاصي توثّقها فيرا بو شهلا من مدرسة سيّدة المعونة الدائمة – فرن الشباك

تنذكر وما تنعاد، عبارة دايمًا منسمعا، لحتّى صارت كليشيه بكتير نصوص وأفلام ودعايات وإعلانات. وبما إنّه عم نحكي عن مئويّة لبنان، ومضطرّين نتذكّر إيام الحرب الأهليّة البشعة، كان لا بدّ من تعديل هالعبارة تا تصير… تنذكر تا ما تنعاد!

ما حا إحكي عن بشاعة الحرب وعن الدمّ، رح إحكي حكاية عن العِلم والإصرار على التعلّم. رح إحكي عن الثقافة ودورها ببناء النفس قبل بناء الأوطان… رح إحكي حكاية حبّ ما بيخلص.

إسمي إيمان عاصي من سكّان عين الرمّانة. أصل عيلتي من بلدة أنصار بجنوب لبنان.

عمري 63 سنة، أمّ لشبّ وصبيتين، وعندي حفيدتَيْن عمر الوحدة أربع سنين، بشتغل حاليًّا بمؤسّسة رسميّة كمسؤولة عن برامج للتطوير والتنمية المستدامة.

أنا من الجيل يللّي بلّش حياتُه بالحرب الأهليّة. كان عمري 17 سنة، كنّا ساكنين عالطيّونة عا خطّ التّماس متل ما كانوا يسمّوه.

بالحرب تأثّرنا ماديًّا وجسديًّا ونفسيًّا، بس ولا مرّة أثّرت الحرب على علاقاتنا مع أصحابنا يللّي عالميلة التانية من خطّ التّماس. بالعكس، كنا ننطر بعض خلف السواتر وكياس الرمل تا نقطّع بعض عالحواجز ونزور بعض ونتطمّن عا بعض. 

لليوم بيتي فيه تنوّع طائفي. إبني وبنتي تجوّزوا من غير ديانات، بس ما مرق ولا يوم حسّينا بأزمة بسبب هالشي. بالعكس، هالشي عطانا غِنى إنساني وثقافي وديني، ومش بس منحكي عن العيش المشترك واحترام الآخر، منعيشُه بالفعل، ومنعيش هالقِيَم بحياتنا اليوميّة بلا أيّ تصنّع.

أنا تزوّجت سنة 1979، كنت إشتغل بالتعليم. تركت لبنان وسافرت عالإمارات. ما قبلت إقعُد بالبيت، اشتغلت ونجحت بشغلي والله عطاني ولادي التلاتة. بنفس الوقت ما قبلت وقّف دراستي الجامعيّة . كان بعد عندي سنتين تا خلّص اللّيسانس بالأدب الإنكليزي.

زميلتي كانت تبعتلي وراق الكورسات، بهيداك الوقت ما كان في إيميل ولا إنترنت. كنت أنطر حدا يجبلي هنّي من لبنان، وكنت أدرس باللّيل بعد ما يناموا الولاد، وإجي بالصيف عا لبنان تا قدّم الامتحانات. والحمدلله نجحت، أخدت اللّيسانس وبتفوّق كمان. 

رجعت مع عيلتي عا لبنان سنة 1986. كنّا مفكرين خلصت الحرب، وإنُّه صار فينا نأسّس مصلحة ببلدنا ونعيش مع أهلنا. بس الحرب كانت بعد ما خلصت. عشنا سنين نهرب ونتخبّى من منطقة لمنطقة وننّام تحت الدرج تا نحميهم. مرقت سنين وكبروا الولاد وما رجعت عالشغل. كان همّي ربّي ولادي وعلّمهن، بس عاطول كان عندي شعور عميق إنُّه عندي طاقة أوسع من الدايرة يللّي أنا عايشة فيها كأمّ وزوجة وستّ بيت.

بذكر، كنت عم درّس بنتي تاريخ وجغرافيا تا تقدّم البريفيه. كانت تكره سمّعلها هالمواد. كنت شجّعها وقلّا: لازم ما تستسلمي، ولازم تنجحي وتاخدي أعلى الشهادات تا تحقّقي مستوى جيّد وتشتغلي بعدين بحياتك. وخبّرتها إنّي كنت أدرس ليل نهار حتّى آخد اللّيسانس. قالتلي: إي ماما، وشو يعني درستِ ليل نهار وإنتِ هلّاء بالبيت ما عم تشتغلي بشهادتك؟. بهالفترة، كانت ظروفنا الاقتصاديّة شوي عم تتدّهور، وشغل جوزي خفّ شوي، فأخدت قرار جرّب إرجع عالتعليم. صراحة، كنت خايفة ومتردّدة كيف برجع عالشغل بعد 20 سنة. كيف بدّي لحّق جوّا البيت وبرّاتُه؟ لقيت تشجيع صراحة من عيلتي، بلّشت إسأل وسعيت كتير حتّى الله وفّقني ورجعت علّم بمدرسة. بالفعل، كانت مرحلة جديدة من حياتي فتحت قدّامي آفاق جديدة كتير ومتنوّعة، وعرفت إنٌّه تنظيم الوقت بيسمح إنُّه ستّ البيت والأمّ فيها تلحّق عابيتها وشغلها وولادها. بنفس السّنة يللّي رجعت فيها عالشغل، تعرّضت لأزمة صحّيّة صعبة كتير. بس قدرت بفضل الله إنّي إتخطّاها مع إنُّه كتار قالولي: ارتاحي بالبيت. بس أنا ما استسلمت. كفّيت بكل طاقتي.

بعد عشر سنين، صرت حسّ إنُّه عندي طاقة أكبر من يللّي أنا عم إعملُه. بنفس التصميم والمثابرة قدرت انتقل من التعليم لإشتغل بمؤسّسة رسميّة. هونيك كمان كان عندي تحدّي مع نفسي. بين إنُّه إبقى بوظيفتي بشكل إداري روتيني بسيط، أو إشتغل على حالي حتّى إشتغل بِقَلب المؤسّسة بمجال بدُّه جهد وتحمّل مسؤوليّات أكبر. ما استسلمت، اخترت الطريق الأصعب بس الأفضل يللّي بيرضي طموحي. اشتغلت عا حالي كتير. وسّعت دايرة المعرفة عندي، قريت كتير وتعلّمت إشيا كتير. بالآخر وصلت إنّي إستلم مشاريع كتير مهمّة بشغلي. وهالشي كان دافع إلي إنُّه إخطي خطوة جديدة، وهي التجربة الأهمّ يللّي بحبّ خبّر عنّا.

من خمس سنين رجعت عا كلّيّة التربية تا أدرس ماجستير بالإدارة التربويّة. رجعت عا الجامعة كان عمري 58 سنة. ما بعرف قدّيش خفت يوم تقديم امتحان الدخول. حسّيت رجعت زمن بعيد لَوَرا. بالجامعة تعلّمت إشيا كتير غير المواد والمقرّرات. كان عندي زُملا بعمر عشرين سنة. عمري أكبر من عمر أساتذتي. بس بقيت سنتين أوصل اللّيل بالنهار بين الشغل والدرس والبيت. بس كان التعب إلُه معنى كتير حلو. عرفت أهميّة التعلّم مدى الحياة، وهالتجربة عطتني دعم كبير وثقة أكبر بالنفس، مش بس عا صعيد الشغل، كمان عالصعيد الشخصي وضمن عيلتي.

نصيحتي للجيل الجديد إنُّه جربوا تكون قلوبكن مفتوحة للتعلّم مش بس بغرفة الصف، وما بعمركن تستسلموا لليأس والخمول. الفرصة ما بتجي لحالها، لازم نشتغل عا حالنا تا نيثبت جدارتنا ونحقّق أحلامنا لما تجينا الفرصة.

أنا متأكّدة إنُّه العِلم والانفتاح والمثابرة هنّي السلاح الوحيد يللّي بيحمينا وبيوصّلنا لمستقبل أفضل. وبتمنّى النجاح للجيل الجديد، وبتمنّى يتمسّك بالقِيَم الإنسانيّة والمواطَنة والعيش المشترك، تا يبقى لبنان التاريخ الحيّ.