تخشيبة وملجأ
قصة سيدة الياس توثقها التلميذة جاسينتا توما من ثانوية لور مغيزل الرسمية للبنات – بيروت
الصبر مفتاح الفرج، وما بعد الضيقة إلّا الفرح. بس أوقات الصبر بيطول، والفرح بيتأخّر، وبيناتن، مندفع تمن كبير من صحّتنا وقلقنا على ولادنا ومستقبلن. وبيناتن، المفروض الناس تساعد بعض وتساند بعض، بس قصتي مرق فيها ناس كتار دارولنا ضهرن، وناس كتار استغلّوا ضيقة حالنا، بس كمان مرق ناس خيرين ما مننسالن جميلن أبدًا.
إسمي سيدة الياس، ومجوّزة من بيت توما، عمري 79 سنة. خلقت بضيعة كفور بالنبطيّة، وساكنة بالأشرفية.
بحبّ لبنان كتير، لبنان بدمّي، وهوّي أجمل بلد. لبنان كان مميّز بكل شي، بس هلّاء مخربط شوي.
جوزي كان معلّم نجارة، وكان يروح يشتغل بالنبطيّة، وكان عنده عيلة سبع ولاد، وأمّه وبيّه عَجَزة عمرن تمانين وخمسة وتمانين سنة. بيّه وِقِع عا سِكْر الميّ وانشلّ وبطّل فيه يقوم. صار مَعَش عنده طريقة يشتغل فيها، احتار وين بدّه يشتغل. صرنا نزرع الموسم، وآخر الموسم ما نلمّ منّه شي، نحطّ أجرة شغّيلة ومعلّمين وأجرة فلاحة، نطلع آخر السنة ما معنا فرنك منّه.
في سنة عقصتني الحيّة بموسم الدخّان، والموسم كلّه راح ما طلع منّه شي. رجعنا صرنا نسكّج من هون ومن هون، صار يتديّن جوزي، مَعَش عرفنا كيف بدنا نعيش ونعيّش العيلة. لحتّى الله هوّنا عليه صحّتله شغلة زغيرة وشتغلا تحتّى نقدر نعيش. تاني موسم ذات الشي. قام بدّه يروح يدبّر شغل ببيروت تحتّى يقدر يعيّشنا. بغيبته ببيروت، صارت “إسرائيل” كل يوم تجي تضرب. إجت “إسرائيل” لقدّام بيتنا وصارت تصوّر، لأن الفلسطينيّة والفدائيّة كانوا عنّا بالضيعة ممترسين وحاطّين جيباتُن. إجت الطيّارات “الإسرائيليّة” صوّرت وصارت تضرب علينا، إجت الضربة قدّام البيت، وزمطنا زَمْطة وصار كل واحد منّا بمطرح. لحتّالي الله هوّنا علينا ووصل جوزي ولقانا بهالحالة. شو بدّه يعمل؟ كل سنة أضرب من سنة، ما بقا في شي نعيش منّه. قلّي: “خلص، بدّي آخدك عا بيروت إنتِ والولاد وأهلي ما بقا في مجال”. بدنا ناخدن، ما فينا ناخدن، بيّه كان مشلول وأمّه مرا كبيرة وأنا ولادي طفالى. احترنا شو بدنا نعمل. رحنا عا بيروت كمان ما كنّاش نلاقي بيت نقعد فيه، ما كنش حدا يآوينا. إجوا بدّن يعطونا شقق لناس مهجّرين بعين الرمّانة والنبعة وهون وهون ما كنّاش نقعد. قلتلن: “أنا ما بقعدش وأبصادرش بيت حدا وبقعد فيه وحدا يدعي عا ولادي”. ولادي وجوزي ما كَنْش يدخلوا بأحزاب، ونحنا كنّا عايشين بالضيعة مع كلّ العالم ما عنّاش عدو. بس الإيّام عاكستنا نزرع الموسم وما نلمّ منّه شي. وصرنا نتديّن لحتّى الله هوّنا علينا ولقينا خربوشة بيت بالأشرفية قعدنا فيه لحتّالي صار يشتغل جوزي. بس بلّش يشتغل صرنا نسدسد اللّي علينا، بالآخر ما عاش فينا نقعد هيكي، الصواريخ فوقنا وتحتنا ليل نهار ونحنا بالملاجئ، باع شقفة أرض بالجنوب لحتّالي دفعنا خلوّ للبيت وصلّحناه لفينا قعدنا. وضلّينا تحت رحمة الله ضرب وقذايف لحتّى الله هوّنا علينا ونتفة ولادنا صاروا شوي كبار. ما قدرنا كفّينا عِلْمُن متل ما هوّي لازم، وما قدرنا عيّشناهن متل ما هوّي لازم، عنّا تنين ختياريّة شو بدنا نعمل فيُّن، كل واحد صار يموت قدّام التاني بعجز وضيقة، ونحنا عيلة كتير تعذّبنا بهيديك الإيّام. يعني مرق علينا إيّام صعبة بالجنوب وببيروت، ما شفنا يوم منيح إلّا لحتّالي هوّنا الله ووقف الضرب والصواريخ والقذايف لحتّى رجع جوزي وصار يشتغل لحتّى صرنا نعيش شوي شوي، وبعدنا مُرَضا لليوم.
نحنا قعدنا بخيمة، بتخشيبة توتيا، ما كنّاش نلاقي بيت نقعد فيه، بدناش نصادر بيوت بالنبعة وبرج حمود وبعين الرمّانة، قلتلن أبصادرش بيت حدا وبدّيش أقعد ببيت حدا، بدّيش حدا يدعيلي عا ولادي، ولادي لنّن بالأحزاب ولا شي. أنا مرا ما بحبّ إئذي حدا ولا آكل حقّ حدا. قعدت بتخشيبة تنك سبع سنين. بالتخشيبة صارت الصواريخ فوقنا تزتّ. نحنا ننزل عالملجأ، بيت عمّي ختياريّة ما فينيش نزّلُن عالملجأ، صرت ودّيهن عا بناية الجيش وخبّيهن هونيك ليوقف الضرب. بالآخر، مَعَش فينا تحمّلنا. مرّة ونحنا بالملجأ إجا الصاروخ عنّا بالأوضة، التخشيبة، الله زَمَّطنا ليلِتا وما كنّاش بالتخشيبة كنّا رحنا كلنا، الصاورخ نتّف الأوضة تنتيف. حياة كانت بشعة كتير، وصرنا نسكّج نسكّج لحتّى الختيارية الله أخد وديعتن، وراحوا وضلّينا معزّزينُن ومكرمينُن، وما نبخل عليهُن شي. جوزي لو بدّه يتديّن ليل نهار بيقول أهلي وولادي ما بقصّرش عليهن بشي. أهلي رايحين مش باقيين بهالدني، وأنا كنت خادمتُن الله يرحمُن، عمّي انشلّ خمس سنين، خمس سنين أنا أخدمُه، وما في حدا مع جوزي، كان وحداني ما عندوش حدا لا أخت ولا خيّ ولا عمّ ولا خال ولا حدا، هوّي لحالو يخبّط أنا ويّاه، أنا أخدم أهلُه كأنهن أهلي وأكتر ومتل ولادي، وهوّي يخبّط ليل نهار تا يعيّش عيلتُه.
بالضيعة آخر مدّة، اعتزنا، مَعَش لقينا كيلو طحين. وقت اللّي عملوا إنقلاب وانقسم الجيش، كان في عسكري هوني بيحبنا كتير، كان آدمي، وبيعرف نحنا شو كنّا، نحنا بيتنا كان مفتوح لكلّ العالم، كان مضافة للكل،ّ للمسيحيّي وللإسلام. قلّي: “يا أمّ شربل، خلاص، أتعتليش همّ، ولادك بدّي أحسبن متل ولادي”. بَعَتلي كيس طحين. وتاني مرّة بعتلي طنجرتَيْن طحين لحتّى إخبزُن.
لمّا رحنا عا بيروت، ونحنا بالملاجئ، الله بعتلي ولاد خالة، يجيبوا ربطة الخبز ما ياكلوها هنّي، يبعتولي ياها لولادي، ينزلّولي ياها عالملجأ، يقولولي: “نحنا منشرب دخّان منشرب قهوة مناكل بسكوت مناكل كعكة منهدّي حالنا، إنتِ عندِك ولاد زغار”. يبعتولي ياها عالملجأ لحتّالي قوّت الولاد. هيك عشنا بالملجأ. ضلّينا سنتين ببيروت جوزي يشتغل لنسدسد المصاري اللّي كانت علينا، لأنّه مرقنا بضيقة كتير صعبة، وجوزي ما كان عندُه أخوة ولا فدّان طَرْش ليفلح ويزرع، صرنا نستأجر ونشتغل الموسم وآخر السنة ما نلمّ منّه شي.
أنا بعت صيغاتي كلّن، وما ضلِّش بإيدنا قرش هون بالضيعة قبل ما رحنا عا بيروت، وما كفّونا، وما عملوا معنا شي، وصرنا نتديّن ونعتاز، وبعدين بعنا كذا شقفة أرض، لحتّالي دفعنا خلوّ واستأجرنا بيت، رجعنا بعنا كذا شقفة لحتّالي نصلّح بيتنا اللّي هدّمولنا ياه، ومشان ناكل ونشرب ونعيش. وما حدا تطلّع فينا وما حدا عطانا قرش، لا بالجنوب ولا ببيروت. نحنا كان إلنا رحمة الله بس، نحنا الله وقف حدنا بس. الشقفة اللّي كانت تسوى خمسين ألف كانوا ياخدوها منّا بعشرة آلاف وخمسة آلاف، المهمّ يقولوا مين عم يشتري ووين هلّاء في ناس تشتري، بس نحنا ننجبر نبيع لحتّى نعيش وناكل… شو بدنا نضلّ نتديّن؟
لازم الجيل الجديد يتعلّم الصبر عالوقت اللّي نحنا فيه، لأنّه مرق علينا ضيقة كتير قويّة وعَوَز وظلم وضرب وقذايف وصواريخ ونحنا تحت الأرض بالملاجئ. هلّاء عم يصير في ضيقة، بس لازم هالجيل يتّكل عا الله ويتحمّلا لحتّى يوصل متل ما هوّي بدّه. لأن الحياة كلها ما بتمرّ بلا ضيقة. لبنان مرق عليه كتير صعوبات، مرق عليه حروب من مرّة لمرّة، وبالنتيجة الله بينصرُه. لبنان ما عليُّوش خوف، لأنّه لبنان التاريخ الحيّ.